من كتاب طوق الحمامة في الألفة والأُلاَّف لـ ابن حزم الأندلسي
[CENTER]
للحب علامات يقفوها الفطن،
ويهتدي إليها الذكي . فأولها
إدمان النظر والعين باب النفس
الشارع ، وهي المنقبة عن سرائرها ،
والمعبرة لضمائرها ، والمعربة عن
بواطنها . فترى الناظر لا يطرف ،
ينتقل بتنقل المحبوب ، وينزوي
بإنزواءه ، ويميل حيث مال .
ومنها علامات متضادة وهي على
قدر الدواعي ، والعوارض الباعثة
والأسباب المحركة والخواطر المهيجة .
والأضداد أنداد ، والأشياء إذا أفرطت
في غايات تضادها ووقفت في
انتهاء حدود اختلافها تشابهت ،
قدرة من الله عز وجل تضل فيها
الأوهام . فهذا الثلج إذا أُدمن حبسه
في اليد فعل فعل النار ، ونجد الفرح
إذا أفرط قتل ، والغم إذا أفرط قتل ،
والضحك إذا كثر واشتد ، أسال الدمع
من العينين . وهذا في العالم كثير ،
فنجد المحبين إذا تـَكافيا في المحبة
وتأكدت بينهما شديداً ، كثر تهاجرهما
بغير معنى ، وتضادهما في القول تعمداً ،
وخروج بعضهما على بعض في كل
يسير من الأمور ، وتتبع كل منهما
لفظة تقع من صاحبه ، وتأولها على
غير معناها ، كل هذا تجربة ليبدو
ما يعتقده كل واحد منهما في صاحبه .
والفرق بين هذا وبين حقيقة الهجرة ،
المضادة المتولدة عن الشحناء ومُحارجة
التشاجر ، سرعة الرضى ، فإنك بينما
ترى المحبين قد بلغا الغاية من
الاختلاف الذي لا تقدره ، يصلح عند
الساكن النفس ، السالم من الأحقاد
في الزمن الطويل ، ولا ينجز عند
الحقود أبداً ، فلا تلبث أن تراهما ،
قد عادا إلى أجمل الصحبة ، وأهدرت
المعاتبة ، وسقط الخلاف ، وانصرفا
في ذلك الحين بعينه إلى المُضاحكة
والمداعبة ، هكذا في الوقت مراراً .
وإذا رأيت هذا من اثنين فلا يخالجك
شك ، ولا يدخلنك ريبة البتة ، ولا تتمار
في أن بينهما سراً من الحب دفيناً ،
واقطع فيه قطع من لا يصرفه عنه
صارف .ودونكها تجربة صحيحة وخبرة
صادقة . هذا لا يكون إلا عن تكافٍ
في المودة وائتلاف صحيح .
ومن أعلامه أنك تجد المحب يستدعي
سماع اسم من يحب ، ويستلذ الكلام
في أخبارة ويجعلها هجيراه ،
ولا يرتاح لشيء ارتياحه لها ،
ولا ينهنهه عن ذلك تخوف أن
يفطن السامع ويفهم الحاضر .
– ومن وجوه العشق : الوصل ،
وهو حظ رفيع ، ومرتبة سرية ،
ودرجة عالية ، وسعد طالع ، بل
هو الحياة المجددة والعيش
السني ، والسرور الدائم ، ورحمة
من الله عظيمة . ولولا أن الدنيا
ممر ومحنة وكدر ، والجنة دار جزاء
وأمان من المكاره ، لقلنا إن وصل
المحبوب هو الصفاء الذي لا كدر فيه ،
والفرح الذي لا شائبة ولا حزن معه ،
وكمال الأماني ، ومنهى الأراجي .
ولقد جربت اللذات على تصرفها ،
وأدركت الحظوظ على اختلافها ،
فما للدنو من السلطان ، ولا المال
المستفاد ، ولا الوجود بعد العدم ،
ولا الأوبة بعد طول الغيبة ، ولا الأمن
بعد الخوف ، ولا التروح على المال ،
من الموقع في النفس ما للوصل ،
ولا سيما بعد طول الامتناع ، وحلول
الهجر ، حتى يتأجج عليه الجَوى ،
ويتوقد لهيب الشوق ، وتتضرم
نار الرجاء . وما إصناف النبات بعد غِب
القطر ، ولا إشراق الأزاهير بعد إقلاع
السحاب الساريات في الزمان السَجسج ،
ولا خرير المِياه المتخللة لأفانين النوار ،
ولا تأنق القصور البيض ، قد أحدقت
بها الرياض الخضر ، بأحسن من وصل
حبيب قد رُضيت أخلاقه ، وحُمدت غرائزه ،
وتقابلت في الحسن أوصافه ، وأنه
لمعجز ألسنة البلغاء ، ومقصر فيه بيان
الفصحاء ، وعنده تطيش الألباب ،
وتعزب الأفهام وفي ذلك أقول :
وسائل لي عما لي من العمر : وقد
رأى الشيب في الفوْدين والعذر
أجبته : ساعة لا شيء أحسبه : عمراً
سواها بحكم العقل والنظر
فقال لي : كيف ذا بينه لي فلقد :
أخبرتني أشنع الأنباء والخبر
فقلت : إن التي قلبي بها عَلِقٌ :
قبلتها قبلة يوم على خطر
فما أعد ولو طالت سِنِي سوى :
تلك السويعة بالتحقيق من عمري .