نكتب القصائد العصماء التي يكون محورها العتب ، ونسطّر الأمثال ، وندّعي بأننا نعي أن العتب نابع من المحبّة للشخص الذي نعاتبه ، بينما نحن في الحقيقة أجهل من أن ندرك جوهر العتاب ورسالته الرقيقه ، نحن لا نعاتب نحن نحاسب ، وشتان بين الأثنين .
نمارس على من نعتقد أننا نعاتبه ضغوطا نفسية ، نحاصره ، نفنّد أعذاره ، نغلق في وجهه الأبواب والنوافذ ، حتى لا يجد مهربا من حصارنا له ، نحن عادة قبل أن نبدأ بالعتب ، نعد لائحة الإتهام إعدادا جيدا خاليا من الثغرات ، ونرتب مكان إنعقاد المحكمة وديكورها الذي لابد أن يوحي بالعدائية ، وقبل ذلك كله نكون قد جهزنا المشنقة إنتظارا للنطق بالحكم ! بعد أن نرتب كل ذلك ، ونطمأن على أن الأمور ستسير لصالح نوايانا الشريرة ، نبدأ باستدراج الضحية بكل الطرق التي لا تثير الريبة إلى أن يقع في الفخ ، ثم نبدأ بتكبيل محاولاته في التبرير ، ونشل قدرته في الدفاع عن موقفه ، نحاسبه على كل صغيرة وكبيرة ، ولا نترك شاردة ولا واردة إلا وذكرناها في لائحة الإتهام الطويلة ، ولا تنتهي المحكمة إلا برؤيتنا للمتهم جاثيا على ركبتيه ، خائر القوى ، مستسلما ، وجاهزا لرصاصة الرحمة !
هذا هو العتب الذي نمارسه عادة على أحبابنا !
العتب الحقيقي يحمل رسالة في منتهى الشفافية والجمال مضمونها :
أنا أحبك أكثر مما تتصور ! بينما ما نمارسه يحمل رسالة عدائية مضمونها :
أنت مقصّر تجاهي أكثر مما قد تتصور !
في العتب الحقيقي أنت لا تسعى إلى تفنيد مبررات من تعاتبه ، فأنت أساسا غير معني كثيرا بما لديه من مبررات ، بل إنك على إستعداد لقبول أي عذر أو أي تبرير ، لأن هذا يعني لك ببساطة أن الآخر يحاول أن يرضيك ، وهذه المحاولة بحد ذاتها كافية للمحب ، في العتب الحقيقي أنت معني بتوصيل مشاعرك الكبيرة التي تكنّها لمن تحب أكثر من أي شيء آخر ، أكثر حتى من إختبار وتمحيص العذر الذي يقدمه لك من تُعاتب .
أنت معني بأن تقول لهذا الآخر أنا أحبك ، ويهمك كثيرا أن تصل له هذه الجمله بكامل دفئها وجمالها وصدقها ، وتضيف على هذه الجملة ، جملة أخرى ملحقة وهي أنه مخطىء بتقدير حجم حبك له ، متمنيا عليه إعادة النظر لأن حبك يستحق ذلك والأكثر من ذلك أنه هو نفسه يستحق هذا الحب .
هذه رسالة العتب الحقيقية التي يفترض أن تصل للآخر ، وليس تلك الرسالة التي نحاول من خلالها أن نبين أن الآخر لا يستحق محبتنا له ، وأنه أصغر من تلك المشاعر التي نحمله له ، وأنه مهما قال ومهما حاول التبرير ، فإن ذلك لن يشفع له ، ولن يجد أذنا صاغية ، فهو مقصّر في نظرنا مهما كانت الأسباب ، وهو في نظرنا جاحد لنعمة حبنا له ، التي لم يصنها ، ولم يعطها حقها من التقدير والإهتمام والرعاية .
نحن نحوّل العتب الرقيق والجميل إلى حساب و"تشرّه" قاسي وشرس ، وتعذيب نفسي ، وإن أقل مانطمح إليه من هذا "العتب" هو أن يحس الآخر بتأنيب الضمير ، والدّونية .
العتاب ذلك الشعور الرائع الذي يفترض أن ينقل صورة جميلة وبهية لشعورنا تجاه من نحب ، يتحول بقدرة قادر إلى أنياب وأظافر حادة نستخدمها لتمزيق شعور من نحب ، وشفرات حادة تجرح أحاسيسه ، وتدمي قلبه .