كلمات لن تصل!
قيل: إن الكلمات تُجسِّدُ في كثيرٍ من الأحيان ما لا يُقال، وتُشخِّص ما في القلوب لتُلامِس الأرواح
ولكنَّها في الحقيقة تُلامِس أرواحًا غير معنيةٍ بالموضوع، فقد تُؤثِّر في البعض فتُحرِّك المشاعر،
وتفتح صناديق الذِّكريات، فتُزيل غُبارَ النسيان من أسطُحِها، فإمَّا أن تَرسُمَ ابتسامة، أو تُنعِش ذِكْرى تَفجَع القلبَ،
وتُهيِّج الجُرْح الذي بَرِئَ بفعل أدوية تقادُم الأيام والسنين، لا بفعل النسيان؛ بل الاعتياد،
وصدَقَ المنفلوطي عندما قال: "وما تفجَّرتْ يَنابِيعُ الخيالاتِ الشعريَّة، والتصوُّراتِ الفنية
إلَّا من صُدوعِ القلوب الكسيرة، والأفئدة الحزينة".
صارت كلُّ تنهيدةٍ أسمَعُها، أشعُر بأنها تُخاطِب حَدَثًا من تلك الأحداث المؤلمة، المتعبة، التعيسة،
التي حاولت رياحُ النسيان أن تُزيلَ رَسْمَ أطلالها، وأبَتْ إلَّا أن تظلَّ محفورةً في الذاكرة، فحالُ بني آدمَ غريبٌ؛
يتذكَّر المآسي، وينسى الأفراح والنِّعَم والخيرات، ولو تفكَّر في النِّعَم، لكانت نِعْمةُ الإسلام كفيلةً بأن تجعله يَخِرُّ ساجدًا باكيًا عليها طول أيام حياته؛
فالإسلامُ دينُ سلام الأرواح، دينُ الصَّدَقة بالابتسام، والفأل بكلِّ الخيرات والمسرَّات،
فالرِّزْق بيد الرزَّاق، ولن تموتَ نفسٌ حتى تستوفيَ رِزْقَها الذي كُتِب لها، فلِمَ نُفكِّر فيما هو قادمٌ،
وننسى أن نعيش اللحظة؟! ننسى أن اللحظة هي حبَّةُ رمْلٍ ذهبية صغيرة تسقُط في قاع الساعة الرملية من حياة بني آدم،
فإن لم يستغلَّ ما فيها بكلِّ ما هو نافعٌ، فإنَّها لن تتكرَّرَ، ولن تعودَ إلى الأعلى مُجدَّدًا، وهكذا العُمر يتقادَمُ ويزداد،
ولا سبيل إلى إنقاصِه أو إيقافِه، إلَّا لمن أراد أن يدخُلَ في هاوية الانتحار، فيخسر دينَه ودُنْياهُ.
هي كلماتٌ لن تصِلَ؛ فالأجسادُ قد رحلَتْ، وطُيِّبتْ، وكُفِّنَتْ بكلِّ ما قدَّمَتْ يداها،
ولكن بَقتْ أرواحُهم تُلامِس شَغافَ قلوبنا، تَطرُقها ليلَ نهارَ، راجيةً منا ألَّا ننساها في رسائلنا السماوية إلى ربٍّ رحيمٍ،
فهي بالفعل كلماتٌ لن تصِلَ إليهم، ولكنها ستُحرِّك ذِكْرى كلِّ مَنْ في قلبه من هذه الكلمات،
أراد إيصالها وكتابتها، فتعذَّرَتْ لمعزَّة مَنْ فَقَدَ، فلا تجعل الفَقْدَ يُحرِّك ما في قلبِكَ، واحرِص على أن تُعبِّر لكلِّ عزيزٍ
وتحترم كلَّ مَنْ تُقابِل، وتُقدِّر كلَّ معروفٍ وإن كان صغيرًا في نظرك، وإيَّاك أن تَجرَحَ قلبًا؛ فالأجسادُ ترحَل، ويبقى ما في القلب إليه يَصْدَح.