صحيح أن حبل الحياة يربط بين الأم وجنينها،
ويضمن قوت هذا الأخير ومدّه بالأكسجين؛
لكن أول ما يفعله الطبيب بعد الخلاص
هو قطعه، ووقف تدفق دم الحب والود
بين الطرفين، وبعد ذلك تعقيم الجرح
وتضميده إلى أن يصير جزءا لا يتجزأ من
جسد كامل مكتمل لملم جروحه،
واستقام استعدادا لمواجهة
عواصف الحياة.
وبقدر فرحة الأم برؤية عيني
جنينها بقدر ارتياحها بعد تخلصها
من ذلك البطن البارز، والثقل
الذي كادت أن تذبل معه روحها،
لولا لطف الودود الرحيم.
والكل يحلم بليلة العمر.. يعد
لها المال والزاد، ويحصر مدعويها،
ويتخيل مراسمها، وينتظر العروسان
بشغف أن يمر كل شيء حتى يتأتى
لهم العيش سويا تحت سقف واحد،
ومشاركة كل لحظات الحياة في كل
يوم وكل شهر وكل سنة، إلى أن
يحسا باختناق عاطفي، وينقلب مسكنهما
إلى سجن محلي، ينتظران فيه بلهفة
لحظة إفراج مؤقت يلتقيان فيها مع
روحيهما، ويسمعان فيها لنبضات
قلبيهما وسريان الدم في شرايينهما
التي كانت قاب قوسين أو أدنى
من الانفجار.
فحتى النباتات التي تنمو عشوائيًا
لا نراها ملتصقة، والأشجار التي
نزرعها متقاربة لا تعطي الثمار،
وإن أشبعنا جذورها ريًا وسمادًا،
وأغصان الأشجار صحيح أنها تتقاطع؛
لكنها تترك فجوات بينها وبين
الأخرى، والسحب لا تتراص في السماء
إلا قبيل نزول الغيث، أما ما عدا ذلك
فتراها موزعة في أرجاء السماء
كأزهار تتفتح تارة وتكفهر تارة
أخرى في انتظار أن تتفرق من جديد.
والطيور، التي تحلق في سرب واحد،
تراها تحافظ على توازن معين،
يمكنها من ترك فسحة أمل لباقي
الرفاق، حتى تسمح لهم بالتدبر
في ملكوت الكون أو تغيير اتجاه
التحليق بدون إلحاق أي ضرر بمن
سبقوها أو بقوا خلفها.
وفي الطرقات تشتد الحرب إذا
ما اقتربت السيارات من بعضها،
وتجد السائقين تائهين بمراقبة
أولئك الذين يلتصقون بهم خشية
أن يقع ما لا تحمد عقباه.
والناس رغم إيمانهم بضرورة
الانفتاح الاجتماعي ونسج علاقات
إنسانية، تجدهم يتهربون من أولئك
الذين يغدقون عليهم أسئلة خانقة
متعلقة بتفاصيل قد يتمنون هم
أنفسهم لو تنمحي من أدمغتهم
في أقرب الآجال، وهل يعقل أن
يكون حتى الاقتراب من النفس
خطيرًا حد الدمار؟ وكيف لا وكلنا
على علم بقصة "نركسوس"، الذي
غرق تأملا في جماله المعكوس على
سطح المياه، أغرته بهدوئها وصفائها
حتى التهمته ووضعت حدا لجماله
وهيمانه ونرجسيته القاتلة.
فالناس يتقربون لا شعوريا من
أولئك الذين يحترمون صمتهم،
ويكتفون بضمهم إن هم عجزوا
عن البوح، يراقبون بحزن تدفق
الدموع في جفونهم المسودة،
ويخففون آلامهم، وينعشون آمالهم
عبر بوابة آمنة عنوانها احتواء صامت.
فمسافة الأمان إذن مصطلح ليس
وليد فترة وباء كورونا، إنما هو
نظام وتعاقد وجب أن يؤسس
فضاءات تعاملاتنا الإنسانية في
كل زمان ومكان، فليست الأمومة
سجنًا ولا الزواج مقبرة ولا الصداقة
قيدًا؛ إلا إذا لم نحترم مسافة الأمان.
فالعودة للذات أمر ضروري،
والابتعاد لفترة عن الأشخاص
بل حتى عن المقربين أو خلان
الروح إلزامي حتى نتمكن من
رؤيتهم تماما مثل المرآة، التي
لو لم تكن منفصلة عنا؛ لما استطاعت
أن تعكس صورنا بوضوح، أو القارب
الذي لو لم يبرح شاطئه الدافئ
الآمن لما عاد بغنائم شتى.
فلندرك جميعنا إذن أن الحب
ليس بغرق في عوالم الآخر الخفية،
ولا بإبحار في تفاصيل ذوات منهكة،
ولا باقتراب حد الموت من كواكب
حارقة كالشمس التي تضيئنا
بدون أن تمنحنا إمكانية الاقتراب
منها، حتى لا نموت حرقا من تآلف
مستحيل، الحب هو ذاك الانصهار
القريب البعيد، الذي يضم الأرواح
إلى بعضها بدون التصاق، هو ذلك
الخليط من أشياء مادية ملموسة
مع مكنونات دافئة محسوسة، هو
قمر يتراءى ببطء، ولا يكتمل
إلا بعودته لسمائه الصافية.
أما ما عدا ذلك فهو فضول ووقاحة،
غرق في تفاصيل جارحة، وإبحار في
نهر جف ماؤه وثملت أسماكه وانقرضت
طحالبه البحرية.. كيف لا وهو لا يقبل أن
ينجلي إلا لأولئك الذين ألفوا عظمته
وخضعوا لقوانينه، فالسفينة قد تقطع
أميالا طويلة على سطح بحر هائج بدون
أن يزعزع عرشها، لا لشيء إلا لأنها
لم تتطفل على ملكوته، والأرض بكل
ثقلها تدور حول نفسها وحول كل
ما خلق الله على سطحها بتوازن مبهر؛
لأن كل ما عليها يكتفي بالغوص في
دائرته الخاصة، ذلك أن عظمة الخالق
في تفاصيل بناء الكون مبنية على التباعد
والاستقلالية المتصلة، فالأرض مكتفية
بما يعيش على سطحها، والسماء مرفوعة
برفق رغم أنها زاخرة بكواكب ونجوم ومجرات.
ولكل دابة ركبها، ولكل أسد موطنه
الذي يدافع عنه بشراسة، ولكل نملة
أو نحلة وحيها ومسكنها ومسلكها
وأسرارها الخاصة، فهل وجدتم يومًا
حرباء في خلية نحل، أو نحلة في بيت
عنكبوت، أو عنكبوتًا في فم تمساح؟
أكيد لا؛ لأن ذلك سيكون محاولة انتحار
بائسة عنوانها التطفل والفضول
الْـلا مشروع والتطاول على
حدود مسافات الأمان.
فكفانا إذن طرقا على أبواب
الأحزان الدفينة وغرقا في بحار
عوالم الآخر المتوارية خلف
ابتسامات مكسورة