عرف العرب الكتابة من آماد بعيدة،
وأدبهم المحفوظ يروي لنا أنهم عرفوا
المكاتبات، والتدوين من فجر التاريخ، كيف لا؟
وهم قد توسطوا الكرة الأرضية، وكانت
بلادهم مهد الحضارات، ومكان النبوات،
ففي شامهم كان الخليل عليه السلام
وأبناؤه، وفي جزيرتهم كان هود وصالح
عليهما السلام.
وبلا شك كانت مراكز التجارة الكبرى على
هذا الطريق في بلاد العرب، من خليج
العرب إلى عدن إلى خليج العقبة،
إلى مدن فلسطين ومدن الحدود
الشرقية في مصر القديمة.
ولم يكن من المصادفة المجهولة أن
تظهر في لغة العرب خطوط الحرف
المسماري، وخطوط الحرف المسند
وخطوط الحرف النبطي، بين شمال
الحجاز وجنوب فلسطين.
فإن التجارة التي تحتاج إلى المعاملة
الكتابية تجري على خط المواصلات
من خليج العرب إلى عدن إلى العقبة
إلى ما جاورها من بلاد الأنباط والكنعانيين،
وهذه هي على التوالي مواطن الخط
المسماري، والخط المسند النبطي
وما تفرَّع عليه.
وتجري المواصلات على غير هذا الخط
من طريق البادية بين وادي النهرين،
وشواطئ البحر الأبيض؛ فليس من
المصادفة المجهولة أيضًا أن توجد
على طريق هذه المواصلات بقايا
الكتابة الصفوية، والكتابة اللحيائية،
والثمودية في حوران وتدمر والحجر
من ديار ثمود؛ ففي هذا الطريق
يتقابل أصحاب القوافل من الشرق
إلى الغرب ومن الغرب إلى الشرق،
كما يتقابلون بين الحجاز والشام
وبين الشام والحجاز.
والغالب على التجارة العربية أنها
تسلك طريق البر على ظهور الجمال،
ولكنها لم تكن معزولة عن البحر كما
يتوهم الكثيرون لاعتقادهم أن أصحاب
سفينة الصحراء لا يعرفون سفينة غير
الجمل، ولا يركبون مطية البحر أو
يحسنون قيادتها كما يحسنون
قيادة المطايا على الرمال؛ فإن
العرب ركبوا البحر قديمًا في المحيط
الهندي، وسبقوا الملاحين إلى
شواطئ أفريقية الشرقية في الجنوب،
ووجدت في بلادهم صناعة بناء السفن
عند العقبة وعمان، ولم يكن سليمان
الحكيم — بطبيعة الحال — أول مَن
بنى سفنًا بجوار العقبة، ولكنه وجد
هذه الصناعة وعمل سفنه فيها
كما جاء في سفر الملوك الأول:
"وعمل الملك سليمان سفنًا في عصيون
جابر التي بجانب أيله على شاطئ بحر
سوف في أرض أدوم".
وسُمِّيت هذه الجهة قبل الإسلام
بفرج الهند كما قال الطبري؛ لأنها
كانت — ولا شك — تتلقى التجارة
من طريق البحر والبر، ولا تزال على
اتصالٍ بالملاحة البحرية مع اتصالها
بالقوافل على ظهور الجِمَال.
ويقول المسعودي: إن الملاحين
العرب كانوا يديرون قيادة السفن
ويدونون تجاربهم في الكتب المتوارثة
عن آبائهم من زمنٍ قديمٍ، وكان في
بحر الهند كما قال: "مشائخ وُلِدُوا
ونشَؤوا من ربابين وأشاتمة ووكلاء
وتجار، ورأيت معهم دفاتر في ذلك
يتدارسونها ويعولون عليها".
ومثل هذه الصناعة لا تنشأ في
سنوات ولا في أجيال قليلة؛ فلا بد
لها من أجيال بعد أجيال طوال.
على أن الأمر المهم في هذا التاريخ
أن المواصلات كانت قائمة دائمة على
هذه الطرق القديمة من أوائل عصورها،
وليس بالمعقول أن يكون الأمر غير
ذلك بحكم الموقع وحكم العلاقة بين
المشرق والمغرب؛ فإذا استخدم
الناس الكتابة في معاملاتهم التجارية
فليس في العالم المعمور يومئذٍ
موقع أولى باستخدامها من البلاد
العربية، وليس من المصادفة
— كما تَقدَّم — أن تكون الخطوط
المسمارية، وخطوط المسند، وخطوط
الحروف النبطية، أول ما تطور من
حروف الأبجدية بعد مرحلتها التي
بلغتها في ألواح سيناء.
ومن الواضح أن صناعة السفن لم
تكن عامة في بلاد العرب وما جاورها
عموم الملاحة على شواطئها في البحرين:
الأبيض والأحمر، وإنما توجد صناعة
السفن حيث تتيسر وسائلها من
الأخشاب والمعادن ومواد اللحام
والطلاء، وحيث تتيسر إلى جوارها
مراسي السفن للبناء والإصلاح والمأوى.
ولهذا كانت شواطئ البحر الأبيض
الشرقية أعمر الشواطئ بمراكز هذه
الصناعة ومراكز الملاحة معها؛ لأنها
نهاية الطرق البرية من قبل آسيا،
وبداية الطرق البحرية إلى القارتين
الأوروبية والأفريقية، وإلى جوارها
غابات الشجر الذي يصلح لبناء السفن
وموارد المواد المنوعة التي تدخل
في صناعتها.
كانت شواطئ فلسطين ولبنان
أعمر الشواطئ الشرقية بأسباب الملاحة
والملاحين ومراكز التجارة التي تصدر
من البلاد أو ترد إليها من خارجها،
وكانت هذه الشواطئ هي التي اشتُهرت
عند اليونان باسم "فينيقية"، ونسبوا
إليها كل ما استوردوه من بلاد العرب
على طريقها، وتواتر عندهم أنها
البلاد التي تلقوا منها الحروف
وعلم الكتابة. مقتبس من كتاب:\"الثقافة العربية\" لعباس العقاد